الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.بَاب ذِكْر الدَّجَّال وَصِفَته وَمَا مَعَهُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِم وَغَيْره فِي قِصَّة الدَّجَّال حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل الْحَقّ فِي صِحَّة وُجُوده، وَأَنَّهُ شَخْص بِعَيْنِهِ، اِبْتَلَى اللَّه بِهِ عِبَاده، وَأَقْدَرَهُ عَلَى أَشْيَاء مِنْ مَقْدُورَات اللَّه تَعَالَى مِنْ إِحْيَاء الْمَيِّت الَّذِي يَقْتُلهُ، وَمِنْ ظُهُور زَهْرَة الدُّنْيَا، وَالْخِصْب مَعَهُ، وَجَنَّته وَنَاره وَنَهَرَيْهِ، وَاتِّبَاع كُنُوز الْأَرْض لَهُ، وَأَمْره السَّمَاء أَنْ تُمْطِر فَتُمْطِر، وَالْأَرْض أَنْ تُنْبِت فَتُنْبِت، فَيَقَع كُلّ ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَته، ثُمَّ يُعْجِزهُ اللَّه تَعَالَى بَعْد ذَلِكَ فَلَا يَقْدِر عَلَى قَتْل ذَلِكَ الرَّجُل وَلَا غَيْره، وَيُبْطِل أَمْره، وَيَقْتُلهُ عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُثَبِّت اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا. هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة وَجَمِيع الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالنُّظَّار، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ، وَأَبْطَلَ أَمْره مِنْ الْخَوَارِج وَالْجَهْمِيَّة وَبَعْض الْمُعْتَزِلَة، وَخِلَافًا لِلْبُخَارِيِّ الْمُعْتَزِلِيّ وَمُوَافِقِيهِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرهمْ فِي أَنَّهُ صَحِيح الْوُجُود، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدَّعِي مَخَارِف وَخَيَالَات لَا حَقَائِق لَهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يَوْثُق بِمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. وَهَذَا غَلَط مِنْ جَمِيعهمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّة فَيَكُون مَا مَعَهُ كَالتَّصْدِيقِ لَهُ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْإِلَهِيَّة، وَهُوَ فِي نَفْس دَعْوَاهُ مُكَذِّب لَهَا بِصُورَةِ حَاله، وَوُجُود دَلَائِل الْحُدُوث فيه، وَنَقْص صُورَته، وَعَجْزه عَنْ إِزَالَة الْعَوَر الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ، وَعَنْ إِزَالَة الشَّاهِد بِكُفْرِهِ الْمَكْتُوب بَيْن عَيْنَيْهِ. وَلِهَذِهِ الدَّلَائِل وَغَيْرهَا لَا يَغْتَرّ بِهِ إِلَّا رِعَاع مِنْ النَّاس لِسَدِّ الْحَاجَة وَالْفَاقَة رَغْبَة فِي سَدّ الرَّمَق، أَوْ تَقِيَّة وَخَوْفًا مِنْ أَذَاهُ؛ لِأَنَّ فِتْنَته عَظِيمَة جِدًّا تُدْهِش الْعُقُول، وَتُحَيِّر الْأَلْبَاب، مَعَ سُرْعَة مُرُوره فِي الْأَمْر، فَلَا يَمْكُث بِحَيْثُ يَتَأَمَّل الضُّعَفَاء حَاله وَدَلَائِل الْحُدُوث فيه وَالنَّقْص فَيُصَدِّقهُ مَنْ صَدَّقَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَة وَلِهَذَا حَذَّرَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مِنْ فِتْنَته، وَنَبَّهُوا عَلَى نَقْصه وَدَلَائِل إِبْطَاله. وَأَمَّا أَهْل التَّوْفِيق فَلَا يَغْتَرُّونَ بِهِ، وَلَا يُخْدَعُونَ لِمَا مَعَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَائِل الْمُكَذِّبَة لَهُ مَعَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْم بِحَالَةٍ، وَلِهَذَا يَقُول لَهُ الَّذِي يَقْتُلهُ ثُمَّ يُحْيِيه: مَا اِزْدَدْت فِيك إِلَّا بَصِيرَة. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه. 5218- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَر، أَلَا وَإِنَّ الْمَسِيح الدَّجَّال أَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنه عِنَبَة طَافِئَة» أَمَّا (طَافِئَة) فَرُوِيَتْ بِالْهَمْزِ وَتَرْكه، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فَالْمَهْمُوزَة هِيَ الَّتِي ذَهَبَ نُورهَا، وَغَيْر الْمَهْمُوزَة الَّتِي نَتَأَتْ وَطَفَتْ مُرْتَفِعَة وَفيها ضَوْء، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الْإِيمَان بَيَان هَذَا كُلّه، وَبَيَان الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ، وَأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة: «أَعْوَر الْعَيْن الْيُمْنَى»، وَفِي رِوَايَة (الْيُسْرَى)، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَالْعَوَر فِي اللُّغَة الْعَيْب، وَعَيْنَاهُ مَعِيبَتَانِ عَوَرًا، وَأَنَّ إِحْدَاهُمَا طَائِفَة بِالْهَمْزِ لَا ضَوْء فيها، وَالْأُخْرَى طَافِيَة بِلَا هَمْزَة ظَاهِرَة نَاتِئَة. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَر، وَالدَّجَّال أَعْوَر» فَبَيَان لِعَلَامَةٍ بَيِّنَة تَدُلّ عَلَى كَذِب الدَّجَّال دَلَالَة قَطْعِيَّة بَدِيهِيَّة، يُدْرِكهَا كُلّ أَحَد وَلَمْ يَقْتَصِر عَلَى كَوْنه جِسْمًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِل الْقَطْعِيَّة لِكَوْنِ بَعْض الْعَوَامّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا. وَاَللَّه أَعْلَم. 5221- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكْتُوب بَيْن عَيْنَيْهِ كَافِر ثُمَّ تَهَجَّاهَا فَقَالَ ك ف ر يَقْرَأهُ كُلّ مُسْلِم» وَفِي رِوَايَة: «يَقْرَأهُ كُلّ مُؤْمِن كَاتِب وَغَيْر كَاتِب» الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ هَذِهِ الْكِتَابَة عَلَى ظَاهِرهَا، وَأَنَّهَا كِتَابَة حَقِيقَة جَعَلَهَا اللَّه آيَة وَعَلَامَة مِنْ جُمْلَة الْعَلَامَات الْقَاطِعَة بِكُفْرِهِ وَكَذِبه وَإِبْطَاله، وَيُظْهِرهَا اللَّه تَعَالَى لِكُلِّ مُسْلِم كَاتِب وَغَيْر كَاتِب، وَيُخْفيها عَمَّنْ أَرَادَ شَقَاوَته وَفِتْنَته، وَلَا اِمْتِنَاع فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فيه خِلَافًا: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ كِتَابَة حَقِيقِيَّة كَمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَجَاز وَإِشَارَة إِلَى سِمَات الْحُدُوث عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: «يَقْرَأهُ كُلّ مُؤْمِن كَاتِب وَغَيْر كَاتِب»، وَهَذَا مَذْهَب ضَعِيف. 5222- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَعَهُ جَنَّة وَنَار فَجَنَّته نَار وَنَاره جَنَّة» وَفِي رِوَايَة: «نَهْرَان» وَفِي رِوَايَة: «مَاء وَنَار» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا مِنْ جُمْلَة فِتْنَته اِمْتَحَنَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عِبَاده لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِل الْبَاطِل، ثُمَّ يَفْضَحهُ وَيُظْهِر لِلنَّاسِ عَجْزه. 5223- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِمَّا أَدْرَكْنَ أَحَد فَلْيَأْتِ النَّهْر الَّذِي يَرَاهُ نَارًا» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «أَدْرَكْنَ» وَفِي بَعْضهَا: «أَدْرَكَهُ» وَهَذَا الثَّانِي ظَاهِر، وَأَمَّا الْأَوَّل فَغَرِيب مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّة، لِأَنَّ هَذِهِ النُّون لَا تَدْخُل عَلَى الْفِعْل. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّهُ (يُدْرِكْنَ) يَعْنِي فَغَيَّرَهُ بَعْض الرُّوَاة. وَقَوْله (يَرَاهُ) بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَمْسُوح الْعَيْن عَلَيْهَا ظَفَرَة غَلِيظَة» هِيَ بِفَتْحِ الظَّاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء، وَهِيَ جِلْدَة تُغْشِي الْبَصَر، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: لَحْمَة تَنْبُت عِنْد الْمَآقِي. 5228- قَوْله: (سَمِعَ النَّوَاس بْن سَمْعَان) بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا. «ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّال ذَات غَدَاة، فَخَفَّضَ فيه وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَة النَّخْل» هُوَ بِتَشْدِيدِ الْفَاء فيهمَا، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدهمَا أَنَّ خَفَّضَ بِمَعْنَى حَقَّرَ، وَقَوْله: «رَفَّعَ» أَيْ عَظَّمَهُ وَفَخَّمَهُ، فَمِنْ تَحْقِيره وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى عَوَره، وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ أَهْوَن عَلَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ» وَأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى قَتْل أَحَد إِلَّا ذَلِكَ الرَّجُل، ثُمَّ يَعْجِز عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَضْمَحِلّ أَمْره، وَيُقْتَل بَعْد ذَلِكَ هُوَ وَأَتْبَاعه. وَمِنْ تَفْخِيمه وَتَعْظِيم فِتْنَته وَالْمِحْنَة بِهِ هَذِهِ الْأُمُور الْخَارِقَة لِلْعَادَةِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمه. وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ خَفَّضَ مِنْ صَوْته فِي حَال الْكَثْرَة فِيمَا تَكَلَّمَ فيه، فَخَفَّضَ بَعْد طُول الْكَلَام وَالتَّعَب لِيَسْتَرِيحَ، ثُمَّ رَفَّعَ لِيَبْلُغ صَوْته كُلّ أَحَد. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَيْر الدَّجَّال أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ بِلَادنَا: «أَخْوَفُنِي» بِنُونٍ بَعْد الْفَاء، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِحَذْفِ النُّون، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِد. قَالَ شَيْخنَا الْإِمَام أَبُو عَبْد اللَّه إِنَّمَا مَالِك رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: الْحَاجَة دَاعِيَة إِلَى الْكَلَام فِي لَفْظ الْحَدِيث وَمَعْنَاهُ، فَأَمَّا لَفْظه لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ مَا لَا يُعْتَاد مِنْ إِضَافَة أَخْوَف إِلَى يَاء الْمُتَكَلِّم مَقْرُونَة بِنُونِ الْوِقَايَة، وَهَذَا الِاسْتِعْمَال إِنَّمَا يَكُون مَعَ الْأَفْعَال الْمُتَعَدِّيَة، وَالْجَوَاب أَنَّهُ كَانَ الْأَصْل إِثْبَاتهَا، وَلَكِنَّهُ أَصْل مَتْرُوك، فَنَبَّهَ عَلَيْهِ فِي قَلِيل مِنْ كَلَامهمْ، وَأَنْشَدَ فيه أَبْيَاتًا مِنْهَا مَا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاء. فَمَا أَدْرِي فَظَنِّيّ كُلّ ظَنَّ أَمُسْلِمَتِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي يَعْنِي شَرَاحِيل فَرَخَّمَهُ فِي غَيْر النِّدَا لِلضَّرُورَةِ وَأَنْشَدَ غَيْره: وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي لِيَرْفِد خَائِبًا فَإِنَّ لَهُ أَضْعَاف مَا كَانَ أَمَلًا وَلِأَفْعَل التَّفْضِيل أَيْضًا شَبَه بِالْفِعْلِ، وَخُصُوصًا بِفِعْلِ التَّعَجُّب، فَجَازَ أَنْ تَلْحَقهُ النُّون الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث كَمَا لَحِقَتْ فِي الْأَبْيَات الْمَذْكُورَة. هَذَا هُوَ الْأَظْهَر فِي هَذِهِ النُّون هُنَا، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ أَخْوَف لِي فَأُبْدِلَتْ النُّون مِنْ اللَّام كَمَا أُبْدِلَتْ فِي (لِعَنْ وَعَنْ) بِمَعْنَى (لَعَلَّ وَعَلَّ). وَأَمَّا مَعْنَى الْحَدِيث فَفيه أَوْجُه أَظْهَرهَا أَنَّهُ مِنْ أَفْعَل التَّفْضِيل، وَتَقْدِيره غَيْر الدَّجَّال أَخْوَف مُخَوِّفَاتِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَاف إِلَى الْيَاء، وَمِنْهُ أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاء الَّتِي أَخَافهَا عَلَى أُمَّتِي أَحَقّهَا بِأَنْ تَخَاف الْأَئِمَّة الْمُضِلُّونَ. وَالثَّانِي بِأَنْ يَكُون أَخْوَف مِنْ أَخَاف بِمَعْنَى خَوْف، وَمَعْنَاهُ غَيْر الدَّجَّال أَشَدّ مُوجِبَات خَوْفِي عَلَيْكُمْ. وَالثَّالِث أَنْ يَكُون مِنْ بَاب وَصْف الْمَعَانِي بِمَا يُوصَف بِهِ الْأَعْيَان عَلَى سَبِيل الْمُبَالَغَة، كَقَوْلِهِمْ فِي الشِّعْر الْفَصِيح: شِعْر شَاعِر، وَخَوْف فُلَان أَخْوَف مِنْ خَوْفك، وَتَقْدِيره خَوْف غَيْر الدَّجَّال أَخْوَف خَوْفِي عَلَيْكُمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَاف الْأَوَّل، ثُمَّ الثَّانِي. هَذَا آخِر كَلَام الشَّيْخ رَحِمَهُ اللَّه. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ شَابّ قَطَط» هُوَ بِفَتْحِ الْقَاف وَالطَّاء أَيْ شَدِيد جُعُودَة الشَّعْر، مُبَاعِد لِلْجُعُودَةِ الْمَحْبُوبَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّة بَيْن الشَّام وَالْعِرَاق» هَكَذَا فِي نُسَخ بِلَادنَا: (خَلَّة) بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام وَتَنْوِين الْهَاء. وَقَالَ الْقَاضِي: الْمَشْهُور فيه (حَلَّة) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة، وَنَصْب التَّاء يَعْنِي غَيْر مُنَوَّنَة. قِيلَ: مَعْنَاهُ سَمْت ذَلِكَ وَقُبَالَته وَفِي كِتَاب الْعَيْن الْحَلَّة مَوْضِع حَزْن وَصُخُور. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ (حَلَّهُ) بِضَمِّ اللَّام وَبِهَاءِ الضَّمِير أَيْ نُزُوله وَحُلُوله قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ: وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ (خَلَّة) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد اللَّام الْمَفْتُوحَتَيْنِ، وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ مَا بَيْن الْبَلَدَيْنِ. هَذَا آخِر مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْهَرَوِيِّ هُوَ الْمَوْجُود فِي نُسَخ بِلَادنَا، وَفِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا بِبِلَادِنَا، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ صَاحِب نِهَايَة الْغَرِيب، وَفَسَّرَهُ بِالطَّرِيقِ بَيْنهمَا. قَوْله: «فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا» هُوَ بِعَيْنٍ مُهْمَلَة وَثَاء مُثَلَّثَة مَفْتُوحَة، وَهُوَ فِعْل مَاضٍ، وَالْعَيْث الْفَسَاد، أَوْ أَشَدّ الْفَسَاد وَالْإِسْرَاع فيه، يُقَال مِنْهُ: عَاثَ يَعِيث، وَحَكَى الْقَاضِي أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْضهمْ فَعَاثَ بِكَسْرِ الثَّاء مَنُوَّنَة اِسْم فَاعِل، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّل. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْم كَسَنَةٍ، وَيَوْم كَشَهْرٍ، وَيَوْم كَجُمْعَةٍ، وَسَائِر أَيَّامه كَأَيَّامِكُمْ» قَالَ الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره، وَهَذِهِ الْأَيَّام الثَّلَاثَة طَوِيلَة عَلَى هَذَا الْقَدْر الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَسَائِر أَيَّامه كَأَيَّامِكُمْ». وَأَمَّا قَوْلهمْ: «يَا رَسُول اللَّه فَذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فيه صَلَاة يَوْم؟ قَالَ: لَا اُقْدُرُوا لَهُ قَدْره» فَقَالَ الْقَاضِي وَغَيْره: هَذَا حُكْم مَخْصُوص بِذَلِكَ الْيَوْم شَرَعَهُ لَنَا صَاحِب الشَّرْع. قَالُوا: وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيث، وَوُكِلْنَا إِلَى اِجْتِهَادنَا، لَاقْتَصَرْنَا فيه عَلَى الصَّلَوَات الْخَمْس عِنْد الْأَوْقَات الْمَعْرُوفَة فِي غَيْره مِنْ الْأَيَّام. وَمَعْنَى: «اُقْدُرُوا لَهُ قَدْره» أَنَّهُ إِذَا مَضَى بَعْد طُلُوع الْفَجْر قَدْر مَا يَكُون بَيْنه وَبَيْن الظُّهْر كُلّ يَوْم فَصَلُّوا الظُّهْر، ثُمَّ إِذَا مَضَى بَعْده قَدْر مَا يَكُون بَيْنهَا وَبَيْن الْعَصْر فَصَلُّوا الْعَصْر، وَإِذَا مَضَى بَعْد هَذَا قَدْر مَا يَكُون بَيْنهَا وَبَيْن الْمَغْرِب فَصَلُّوا الْمَغْرِب، وَكَذَا الْعِشَاء وَالصُّبْح، ثُمَّ الظُّهْر، ثُمَّ الْعَصْر، ثُمَّ الْمَغْرِب، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْقَضِي ذَلِكَ الْيَوْم. وَقَدْ وَقَعَ فيه صَلَوَات سِتَّة، فَرَائِض كُلّهَا مُؤَدَّاة فِي وَقْتهَا. وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَشَهْرٍ، وَالثَّالِث الَّذِي كَجُمْعَةٍ، فَقِيَاس الْيَوْم الْأَوَّل أَنْ يُقَدَّر لَهُمَا كَالْيَوْمِ الْأَوَّل عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَرُوح عَلَيْهِمْ سَارِحَتهمْ أَطْوَل مَا كَانَتْ ذَرًّا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدّهُ خَوَاصِر» أَمَّا (تَرُوح) فَمَعْنَاهُ تَرْجِع آخِر النَّهَار، (وَالسَّارِحَة) هِيَ الْمَاشِيَة الَّتِي تَسْرَح أَيْ تَذْهَب أَوَّل النَّهَار إِلَى الْمَرْعَى. وَأَمَّا (الذَّرِّيّ) فَبِضَمِّ الذَّال الْمُعْجَمَة وَهِيَ الْأَعَالِي و(الْأَسْنِمَة) جَمْع ذُرْوَة بِضَمِّ الذَّال وَكَسْرهَا. وَقَوْله: (وَأَسْبَغَهُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَة وَالْغَيْن الْمُعْجَمَة أَيْ أَطْوَله لِكَثْرَةِ اللَّبَن، وَكَذَا (أَمَدّه خَوَاصِر) لِكَثْرَةِ اِمْتِلَائِهَا مِنْ الشِّبَع. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَتْبَعهُ كُنُوزهَا كَيَعَاسِيب النَّحْل» هِيَ ذُكُور النَّحْل، هَكَذَا فَسَّرَهُ اِبْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد جَمَاعَة النَّحْل لَا ذُكُورهَا خَاصَّة، لَكِنَّهُ كَنَّى عَنْ الْجَمَاعَة بِالْيَعْسُوبِ، وَهُوَ أَمِيرهَا، لِأَنَّهُ مَتَى طَارَ تَبِعَتْهُ جَمَاعَته. وَاَللَّه أَعْلَم. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَقْطَعهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَة الْغَرَض» بِفَتْحِ الْجِيم عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى اِبْن دُرَيْد كَسْرهَا، أَيْ قِطْعَتَيْنِ. وَمَعْنَى: «رَمْيَة الْغَرَض» أَنَّهُ يَجْعَل بَيْن الْجَزْلَتَيْنِ مِقْدَار رَمْيَته. هَذَا هُوَ الظَّاهِر الْمَشْهُور، وَحَكَى الْقَاضِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ فيه تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيره فَيُصِيبهُ إِصَابَة رَمْيَة الْغَرَض، فَيَقْطَعهُ جَزْلَتَيْنِ، وَالصَّحِيح الْأَوَّل. قَوْله: «فَيَنْزِل عِنْد الْمَنَارَة الْبَيْضَاء شَرْقِيّ دِمَشْق بَيْن مَهْرُودَتَيْنِ» أَمَّا (الْمَنَارَة) فَبِفَتْحِ الْمِيم وَهَذِهِ الْمَنَارَة مَوْجُودَة الْيَوْم شَرْقِيّ دِمَشْق، وَدِمَشْق بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْح الْمِيم، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحَكَى صَاحِب الْمَطَالِع كَسْر الْمِيم، وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ فَضَائِل دِمَشْق. وَفِي (عِنْد) ثَلَاث لُغَات: كَسْر الْعَيْن وَضَمّهَا وَفَتْحهَا، وَالْمَشْهُور الْكَسْر. وَأَمَّا (الْمَهْرُودَتَانِ) فَرُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَالذَّال الْمُعْجَمَة، وَالْمُهْمَلَة أَكْثَر، وَالْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب وَغَيْرهمْ، وَأَكْثَر مَا يَقَع فِي النُّسَخ بِالْمُهْمَلَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُور، وَمَعْنَاهُ لَابِس مَهْرُودَتَيْنِ أَيْ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِوَرْسٍ ثُمَّ بِزَعْفَرَانٍ، وَقِيلَ: هُمَا شَقَّتَانِ، وَالشَّقَّة نِصْف الْمُلَاءَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَدَّر مِنْهُ جُمَان كَاللُّؤْلُؤِ» الْجُمَان بِضَمِّ الْجِيم وَتَخْفِيف الْمِيم هِيَ حَبَّات مِنْ الْفِضَّة تُصْنَع عَلَى هَيْئَة اللُّؤْلُؤ الْكِبَار، وَالْمُرَاد يَتَحَدَّر مِنْهُ الْمَاء عَلَى هَيْئَة اللُّؤْلُؤ فِي صَفَائِهِ، فَسُمِّيَ الْمَاء جُمَانًا لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصَّفَاء. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا يَحِلّ لِكَافِرٍ يَجِد رِيح نَفْسه إِلَّا مَاتَ» هَكَذَا الرِوَايَة: «فَلَا يَحِلّ» بِكَسْرِ الْحَاء. و(نَفْسه) بِفَتْحِ الْفَاء. وَمَعْنَى (لَا يَحِلّ) لَا يُمْكِن وَلَا يَقَع، وَقَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ عِنْدِي حَقّ وَوَاجِب. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِضَمِّ الْحَاء، وَهُوَ وَهْم وَغَلَط. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُدْرِكهُ بِبَابِ لُدّ» هُوَ بِضَمِّ اللَّام وَتَشْدِيد الدَّال مَصْرُوف، وَهُوَ بَلْدَة قَرِيبَة مِنْ بَيْت الْمَقْدِس. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا قَدْ عَصَمَهُمْ اللَّه مِنْهُ، فَيَمْسَح عَنْ وُجُوههمْ» قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَل أَنَّ هَذَا الْمَسْح حَقِيقَة عَلَى ظَاهِره، فَيَمْسَح عَلَى وُجُوههمْ تَبَرُّكًا وَبِرًّا. وَيُحْتَمَل أَنَّهُ إِشَارَة إِلَى كَشْف مَا هُمْ فيه مِنْ الشِّدَّة وَالْخَوْف. قَوْله تَعَالَى: «أَخْرَجْت عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّور» فَقَوْله: «لَا يَدَانِ» بِكَسْرِ النُّون تَثْنِيَة (يَد). قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا قُدْرَة وَلَا طَاقَة، يُقَال: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد، وَمَا لِي بِهِ يَدَانِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَة وَالدَّفْع إِنَّمَا يَكُون بِالْيَدِ، وَكَأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتَانِ لِعَجْزِهِ عَنْ دَفْعه. وَمَعْنَى: «حَرِّزْهُمْ إِلَى الطُّور» أَيْ ضُمَّهُمْ وَاجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا. يُقَال: أَحْرَزْت الشَّيْء أُحْرِزهُ إِحْرَازًا إِذَا حَفِظْته وَضَمَمْته إِلَيْك، وَصُنْته عَنْ الْأَخْذ. وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: «حَزِّبْ» بِالْحَاءِ وَالزَّاي وَالْبَاء أَيْ اِجْمَعْهُمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ: «حَوِّزْ» بِالْوَاوِ وَالزَّاي، وَمَعْنَاهُ نَحِّهِمْ وَأَزِلْهُمْ عَنْ طَرِيقهمْ إِلَى الطُّور. قَوْله: {وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَب يَنْسِلُونَ} (الْحَدَب) النَّشْز وَ{يَنْسِلُونَ} يَمْشُونَ مُسْرِعِينَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُرْسِل اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ النَّغَف فِي رِقَابهمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى» «النَّغَف» بِنُونٍ وَغَيْن مُعْجَمَة مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاء، وَهُوَ دُود يَكُون فِي أُنُوف الْإِبِل وَالْغَنَم، الْوَاحِدَة: نَغَفَة. و(الْفَرْسَى) بِفَتْحِ الْفَاء مَقْصُور أَيْ قَتْلَى، وَاحِدهمْ فَرِيس. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَلَأَهُ زَهْمهمْ وَنَتْنهمْ» هُوَ بِفَتْحِ الْهَاء أَيْ دَسْمهمْ وَرَائِحَتهمْ الْكَرِيهَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَكُنْ مِنْهُ بَيْت مَدَر» أَيْ لَا يَمْنَع مِنْ نُزُول الْمَاء بَيْت. (الْمَدَر) بِفَتْحِ الْمِيم وَالدَّال، وَهُوَ الطِّين الصُّلْب. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَغْسِل الْأَرْض حَتَّى يَتْرُكهَا كَالزَّلَفَةِ» رُوِيَ بِفَتْحِ الزَّاي وَاللَّام وَالْقَاف، وَرُوِيَ (الزُّلْفَة) بِضَمِّ الزَّاء وَإِسْكَان اللَّام وَبِالْفَاءِ، وَرُوِيَ (الزَّلَفَة) بِفَتْحِ الزَّاي وَاللَّام وَبِالْفَاءِ، وَقَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ بِالْفَاءِ وَالْقَاف وَبِفَتْحِ اللَّام وَبِإِسْكَانِهَا. وَكُلّهَا صَحِيحَة. قَالَ فِي الْمَشَارِق: وَالزَّاي مَفْتُوحَة. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ ثَعْلَب وَأَبُو زَيْد وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ كَالْمِرْآةِ، وَحَكَى صَاحِب الْمَشَارِق هَذَا عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا، شَبَّهَهَا بِالْمِرْآةِ فِي صَفَائِهَا وَنَظَافَتهَا، وَقِيلَ: كَمَصَانِع الْمَاء أَيْ إِنَّ الْمَاء يُسْتَنْقَع فيها حَتَّى تَصِير كَالْمَصْنَعِ الَّذِي يَجْتَمِع فيه الْمَاء. وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: مَعْنَاهُ كَالْإِجَّانَةِ الْخَضْرَاء، وَقِيلَ: كَالصَّحْفَةِ، وَقِيلَ: كَالرَّوْضَةِ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَأْكُل الْعِصَابَة مِنْ الرُّمَّانَة وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا» الْعِصَابَة الْجَمَاعَة، و(قِحْفهَا) بِكَسْرِ الْقَاف هُوَ مُقَعَّر قِشْرهَا، شَبَّهَهَا بِقِحْفِ الرَّأْس، وَهُوَ الَّذِي فَوْق الدِّمَاغ، وَقِيلَ: مَا اِنْفَلَقَ مِنْ جُمْجُمَته وَانْفَصَلَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُبَارِك فِي الرِّسْل حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَة مِنْ الْإِبِل لَتَكْفِي الْفِئَام مِنْ النَّاس» (الرِّسْل) بِكَسْرِ الرَّاء وَإِسْكَان السِّين هُوَ اللَّبَن، وَاللِّقْحَة بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا، لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَالْكَسْر أَشْهَر، وَهِيَ الْقَرِيبَة الْعَهْد بِالْوِلَادَةِ، وَجَمْعهَا لِقَح بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْح الْقَاف، كَبِرْكَةٍ وَبِرَك. وَاللَّقُوح ذَات اللَّبَن، وَجَمْعهَا لِقَاح. وَالْفِئَام بِكَسْرِ الْفَاء وَبَعْدهَا هَمْزَة مَمْدُودَة، وَهِيَ الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة وَكُتُب الْغَرِيب، وَرِوَايَة الْحَدِيث أَنَّهُ بِكَسْرِ الْفَاء وَالْهَمْز. قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيز الْهَمْز، بَلْ يَقُولهُ بِالْيَاءِ. وَقَالَ فِي الْمَشَارِق: وَحَكَاهُ الْخَلِيل بِفَتْحِ الْفَاء، وَهِيَ رِوَايَة الْقَابِسِيّ. قَالَ: وَذَكَرَهُ صَاحِب الْعَيْن غَيْر مَهْمُوز، فَأَدْخَلَهُ فِي حَرْف الْيَاء، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ بَعْضهمْ ذَكَرَهُ بِفَتْحِ الْفَاء وَتَشْدِيد الْيَاء، وَهُوَ غَلَط فَاحِش. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِتَكْفِيَ الْفَخْذ مِنْ النَّاس» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْفَخْذ الْجَمَاعَة مِنْ الْأَقَارِب، وَهُمْ دُون الْبَطْن، وَالْبَطْن دُون الْقَبِيلَة. قَالَ الْقَاضِي: قَالَ اِبْن فَارِس: الْفَخْذ هُنَا بِإِسْكَانِ الْخَاء لَا غَيْر، فَلَا يُقَال إِلَّا بِإِسْكَانِهَا، بِخِلَافِ الْفَخِذ الَّتِي هِيَ الْعُضْو، فَإِنَّهَا تُكْسَر وَتُسَكَّن. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَقْبِض رُوح كُلّ مُؤْمِن وَكُلّ مُسْلِم» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم: (وَكُلّ مُسْلِم) بِالْوَاوِ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتَهَارَجُونَ تَهَارُج الْحُمُر» أَيْ يُجَامِع الرِّجَال النِّسَاء بِحَضْرَةِ النَّاس كَمَا يَفْعَل الْحَمِير، وَلَا يَكْتَرِثُونَ لِذَلِكَ: (وَالْهَرْج) بِإِسْكَانِ الرَّاء الْجِمَاع، يُقَال: هَرَجَ زَوْجَته أَيْ جَامَعَهَا يَهْرَجُهَا، بِفَتْحِ الرَّاء وَضَمّهَا وَكَسْرهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَل الْخَمَر» هُوَ بِخَاءٍ مُعْجَمَة وَمِيم مَفْتُوحَتَيْنِ، وَالْخَمَر الشَّجَر الْمُلْتَفّ الَّذِي يَسْتُر مَنْ فيه، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيث بِأَنَّهُ جَبَل بَيْت الْمَقْدِس. .باب فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ وَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ الْمُؤْمِنَ وَإِحْيَائِهِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَقْتُلهُ ثُمَّ يُحْيِيه» قَالَ الْمَازِرِيّ إِنْ قِيلَ إِظْهَار الْمُعْجِزَة عَلَى يَد الْكَذَّاب لَيْسَ بِمُمْكِنٍ. وَكَيْف ظَهَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِق لِلْعَادَةِ عَلَى يَده؟ فَالْجَوَاب أَنَّهُ إِنَّمَا يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّة وَأَدِلَّة الْحُدُوث تُخِلّ مَا اِدَّعَاهُ وَتُكَذِّبهُ. وَأَمَّا النَّبِيّ فَإِنَّمَا يَدَّعِي النُّبُوَّة. وَلَيْسَتْ مُسْتَحِيلَة فِي الْبَشَر، فَإِذَا أَتَى بِدَلِيلٍ لَمْ يُعَارِضهُ شَيْء صَدَقَ. وَأَمَّا قَوْل الدَّجَّال: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْت هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْته أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْر؟ فَيَقُولُونَ لَا»: فَقَدْ يُسْتَشْكَل لِأَنَّ مَا أَظْهَرَهُ الدَّجَّال لَا دَلَالَة فيه لِرُبُوبِيَّتِهِ لِظُهُورِ النَّقْص عَلَيْهِ، وَدَلَائِل الْحُدُوث، وَتَشْوِيه الذَّات، وَشَهَادَة كَذِبه وَكُفْره الْمَكْتُوبَة بَيْن عَيْنَيْهِ، وَغَيْر ذَلِكَ. وَيُجَاب بِنَحْوِ مَا سَبَقَ فِي أَوَّل الْبَاب هُوَ أَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ قَالُوا خَوْفًا مِنْهُ وَتَقِيَّة لَا تَصْدِيقًا. وَيُحْتَمَل أَنَّهُمْ قَصَدُوا لَا نَشُكّ فِي كَذِبك وَكُفْرك فَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي كَذِبه وَكُفْره كَفَرَ. وَخَادَعُوهُ بِهَذِهِ التَّوْرِيَة خَوْفًا مِنْهُ. وَيُحْتَمَل أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَا نَشُكّ هُمْ مُصَدِّقُوهُ مِنْ الْيَهُود وَغَيْرهمْ مِمَّنْ قَدَّرَ اللَّه تَعَالَى شَقَاوَته. قَوْله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاق: يُقَال: إِنَّ الرَّجُل هُوَ الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام) أَبُو إِسْحَاق هَذَا هُوَ إِبْرَاهِيم بْن سُفْيَان رَاوِي الْكِتَاب عَنْ مُسْلِم، وَكَذَا قَالَ مَعْمَر فِي جَامِعه فِي أَثَر هَذَا الْحَدِيث كَمَا ذَكَرَهُ اِبْن سُفْيَان، وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِحَيَاةِ الْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابه مِنْ كِتَاب الْمَنَاقِب. 5230- و(الْمَسَالِح) قَوْم مَعَهُمْ سِلَاح يُرَتَّبُونَ فِي الْمَرَاكِز كَالْخُفَرَاءِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِحَمْلِهِمْ السِّلَاح. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْمُر الدَّجَّال بِهِ، فَيُشَبَّح، فَيَقُول: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ» فَالْأَوَّل بِشِينٍ مُعْجَمَة ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة أَيْ مُدُّوهُ عَلَى بَطْنه، وَالثَّانِي (شُجُّوهُ) بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَة مِنْ الشَّجّ، وَهُوَ الْجَرْح فِي الرَّأْس. وَالْوَجْه الثَّانِي فَيُشَجّ كَالْأَوَّلِ، فَيَقُول: خُذُوهُ وَشَبِّحُوه بِالْبَاءِ وَالْحَاء. وَالثَّالِث فَيُشَجّ وَشُجُّوهُ كِلَاهُمَا بِالْجِيمِ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي الْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ، وَالْأَصَحّ عِنْدنَا الْأَوَّل. وَأَمَّا قَوْله: «فَيُوسَع ظَهْره» فَبِإِسْكَانِ الْوَاو وَفَتْح السِّين. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُؤْشَر بِالْمِئْشَار مِنْ مَفْرِقه» هَكَذَا الرِّوَايَة (يُؤْشَر) بِالْهَمْزِ، وَالْمِئْشَار بِهَمْزَةٍ بَعْد الْمِيم، وَهُوَ الْأَفْصَح، وَيَجُوز تَخْفِيف الْهَمْزَة فيهمَا، فَيَجْعَل فِي الْأَوَّل وَاوًا، وَفِي الثَّانِي يَاء. وَيَجُوز (الْمِنْشَار) بِالنُّونِ، وَعَلَى هَذَا يُقَال: نَشَرْت الْخَشَبَة، وَعَلَى الْأَوَّل يُقَال أَشَرْتهَا. و: «مَفْرِق الرَّأْس» بِكَسْرِ الرَّاء وَسَطه. وَالتَّرْقُوَة بِفَتْحِ التَّاء وَضَمّ الْقَاف، وَهِيَ الْعَظْم الَّذِي بَيْن ثَغْرَة النَّحْر وَالْعَاتِق. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُنْصِبُك» هُوَ بِضَمِّ الْيَاء عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة أَيْ مَا يُتْعِبك مِنْ أَمْره؟ قَالَ اِبْن دُرَيْد: يُقَال أَنْصَبَهُ الْمَرَض وَغَيْره، وَنَصَبَهُ، وَالْأَوَّل أَفْصَح. قَالَ: وَهُوَ تَغَيُّر الْحَال مِنْ مَرَض أَوْ تَعَب. .باب فِي الدَّجَّالِ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: .باب فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَمُكْثِهِ فِي الأَرْضِ وَنُزُولِ عِيسَى وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ وَذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ: قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: نُزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَتْله الدَّجَّال حَقّ، وَصَحِيح عِنْد أَهْل السُّنَّة، لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْل وَلَا فِي الشَّرْع مَا يُبْطِلهُ، فَوَجَبَ إِثْبَاته، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْض الْمُعْتَزِلَة وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيث مَرْدُودَة بِقَوْله تَعَالَى: {وَخَاتَم النَّبِيِّينَ}. وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نَبِيّ بَعْدِي» وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْد نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرِيعَته مُؤَبَّدَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا تُنْسَخ. وَهَذَا اِسْتِدْلَال فَاسِد؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد بِنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ يُنْزِل نَبِيًّا بِشَرْعٍ يَنْسَخ شَرَعْنَا، وَلَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث وَلَا فِي غَيْرهَا شَيْء مِنْ هَذَا، بَلْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيث هُنَا. وَمَا سَبَقَ فِي كِتَاب الْإِيمَان وَغَيْرهَا أَنَّهُ يَنْزِل حَكَمًا مُقْسِطًا بِحُكْمِ شَرْعنَا، وَيُحْيِي مِنْ أُمُور شَرْعنَا مَا هَجَرَهُ النَّاس. قَوْله: «فِي كَبِد جَبَل» أَيْ وَسَطه وَدَاخِله، وَكَبِد كُلّ شَيْء وَسَطه. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَبْقَى شِرَار النَّاس فِي خِفَّة الطَّيْر وَأَحْلَام السِّبَاع» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ يَكُونُونَ فِي سُرْعَتهمْ إِلَى الشُّرُور وَقَضَاء الشَّهَوَات وَالْفَسَاد كَطَيَرَانِ الطَّيْر، وَفِي الْعُدْوَان وَظُلْم بَعْضهمْ بَعْضًا فِي أَخْلَاق السِّبَاع الْعَادِيَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا» اللِّيت بِكَسْرِ اللَّام وَآخِره مُثَنَّاة فَوْق وَهِيَ صَفْحَة الْعُنُق، وَهِيَ جَانِبه، و(أَصْغَى) أَمَالَ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَوَّل مَنْ يَسْمَعهُ رَجُل يَلُوط حَوْض إِبِله» أَيْ يُطَيِّنهُ وَيُصْلِحهُ. قَوْله: «كَأَنَّهُ الطَّلّ أَوْ الظِّلّ» قَالَ الْعُلَمَاء: الْأَصَحّ الطَّلّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِق لِلْحَدِيثِ الْآخَر: «أَنَّهُ كَمَنِيِّ الرِّجَال». قَوْله: «فَذَلِكَ يَوْم يُكْشَف عَنْ سَاق» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ وَمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآن: {يَوْم يُكْشَف عَنْ سَاق} يَوْم يُكْشَف عَنْ شِدَّة وَهَوْل عَظِيم أَيْ يُظْهِر ذَلِكَ. يُقَال: كَشَفَتْ الْحَرْب عَنْ سَاقهَا إِذَا اِشْتَدَّتْ، وَأَصْله أَنَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْره كَشَفَ عَنْ سَاقه مُسْتَمِرًّا فِي الْخِفَّة وَالنَّشَاط لَهُ. .بَاب قِصَّة الْجَسَّاسَة: وَجَاءَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ أَنَّهَا دَابَّة الْأَرْض الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن. 5235- قَوْله: «عَنْ فَاطِمَة بِنْت قَيْس قَالَتْ: نُكِحْت اِبْن الْمُغِيرَة، وَهُوَ مِنْ خِيَار شَبَاب قُرَيْش يَوْمئِذٍ فَأُصِيبَ فِي أَوَّل الْجِهَاد مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا تَأَيَّمْت خَطَبَنِي عَبْد الرَّحْمَن» مَعْنَى (تَأَيَّمْت) صِرْت أَيِّمًا، وَهِيَ الَّتِي لَا زَوْج لَهَا. قَالَ الْعُلَمَاء: قَوْلهَا: (فَأُصِيبَ) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الْجِهَاد مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَيَّمْت بِذَلِكَ، إِنَّمَا تَأَيَّمْت بِطَلَاقِهِ الْبَائِن كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الطَّرِيق الَّذِي بَعْد هَذَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَاب الطَّلَاق، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي جَمِيع كُتُبهمْ. وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي وَقْت وَفَاته فَقِيلَ: تُوُفِّيَ مَعَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَقِب طَلَاقهَا بِالْيَمَنِ، حَكَاهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ. وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ إِلَى خِلَافَة عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، حَكَاهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ. وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلهَا: فَأُصِيبَ أَيْ بِجِرَاحَةٍ، أَوْ أُصِيبَ فِي مَاله، أَوْ نَحْو ذَلِكَ هَكَذَا تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاء. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ عَدّ فَضَائِله، فَابْتَدَأَتْ بِكَوْنِهِ خَيْر شَبَاب قُرَيْش، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْبَاقِي. وَقَدْ سَبَقَ شَرْح حَدِيث فَاطِمَة هَذَا فِي كِتَاب الطَّلَاق وَبَيَان مَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ. قَوْله: (وَأُمّ شَرِيك مِنْ الْأَنْصَار) هَذَا قَدْ أَنْكَرَهُ بَعْض الْعُلَمَاء، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ قُرَشِيَّة مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ، وَاسْمهَا غَرْبَة، وَقِيلَ: غَرْبَلَة، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا ثِنْتَانِ قُرَشِيَّة وَأَنْصَارِيَّة. قَوْله: «وَلَكِنْ اِنْتَقِلِي إِلَى اِبْن عَمّك عَبْد اللَّه بْن عَمْرو اِبْن أُمّ مَكْتُوم وَهُوَ رَجُل مِنْ بَنِي فِهْر فِهْر قُرَيْش، وَهُوَ مِنْ الْبَطْن الَّذِي هِيَ مِنْهُ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ. وَقَوْله (اِبْن أُمّ مَكْتُوم) يُكْتَب بِأَلِفٍ لِأَنَّهُ صِفَة لِعَبْدِ اللَّه لَا لِعَمْرٍو، فَنَسَبه إِلَى أَبِيهِ عَمْرو، وَإِلَى أُمّه أُمّ مَكْتُوم، فَجُمِعَ نَسَبه إِلَى أَبَوَيْهِ كَمَا فِي عَبْد اللَّه بْن مَالِك اِبْن بُحَيْنَة، وَعَبْد اللَّه بْن أُبَيِّ اِبْن سَلُول، وَنَظَائِر ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان هَؤُلَاءِ كُلّهمْ فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث الْمِقْدَاد حِين قَتَلَ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْرُوف أَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِ عَمّهَا، وَلَا مِنْ الْبَطْن الَّذِي هِيَ مِنْهُ، بَلْ مِنْ بَنِي مُحَارِب بْن فِهْر، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَالصَّوَاب أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَة صَحِيح، وَالْمُرَاد بِالْبَطْنِ هُنَا الْقَبِيلَة لَا الْبَطْن الَّذِي هُوَ أَخَصّ مِنْهَا، وَالْمُرَاد أَنَّهُ اِبْن عَمّهَا مَجَازًا لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلَتهَا، فَالرِّوَايَة صَحِيحَة وَلِلَّهِ الْحَمْد. قَوْله: «الصَّلَاة جَامِعَة» هُوَ بِنَصْبِ الصَّلَاة وَجَامِعَة، الْأَوَّل عَلَى الْإِغْرَاء، وَالثَّانِي عَلَى الْحَال. قَوْلهَا: «فَلَمَّا تَأَيَّمْت خَطَبَنِي عَبْد الرَّحْمَن» إِلَى آخِره ظَاهِره أَنَّ الْخُطْبَة كَانَتْ فِي نَفْس الْعِدَّة، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْد اِنْقِضَائِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَحَادِيث السَّابِقَة فِي كِتَاب الطَّلَاق، فَيُتَأَوَّل هَذَا اللَّفْظ الْوَاقِع هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُون قَوْله: اِنْتَقِلِي إِلَى أُمّ شَرِيك وَإِلَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم مُقَدَّمًا عَلَى الْخُطْبَة وَعَطْف جُمْلَة عَلَى جُمْلَة مِنْ غَيْر تَرْتِيب. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَنْ تَمِيم الدَّارِيّ: حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ سَفِينَة» هَذَا مَعْدُود فِي مَنَاقِب تَمِيم لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْهُ هَذِهِ الْقِصَّة. وَفيه رِوَايَة الْفَاضِل عَنْ الْمَفْضُول، وَرِوَايَة الْمَتْبُوع عَنْ تَابِعه. وَفيه قَبُول خَبَر الْوَاحِد. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَة» هُوَ بِالْهَمْزَةِ أَيْ اِلْتَجَئُوا إِلَيْهَا. قَوْله: «فَجَلَسُوا فِي أَقْرَب السَّفِينَة» هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَهِيَ سَفِينَة صَغِيرَة تَكُون مَعَ الْكَبِيرَة كَالْجَنِيبَةِ يَتَصَرَّف فيها رُكَّاب السَّفِينَة لِقَضَاءِ حَوَائِجهمْ، الْجَمْع قَوَارِب، وَالْوَاحِد قَارِب بِكَسْرِ الرَّاء وَفَتْحهَا، وَجَاءَ هُنَا (أَقْرَب)، وَهُوَ صَحِيح لَكِنَّهُ خِلَاف الْقِيَاس. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِأَقْرَب السَّفِينَة أُخْرَيَاتهَا، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا لِلنُّزُولِ. قَوْله: (دَابَّة أَهْلَب) كَثِير الشَّعْر، الْأَهْلَب غَلِيظ الشَّعْر كَثِيره. قَوْله: «فَإِنَّهُ إِلَى خَبَركُمْ بِالْأَشْوَاقِ» أَيْ شَدِيد الْأَشْوَاق إِلَيْهِ. وَقَوْله: «فَرِقْنَا» أَي خِفْنَا. قَوْله: «صَادَفْنَا الْبَحْر حِين اِغْتَلَمَ» أَيْ هَاجَ وَجَاوَزَ حَدّه الْمُعْتَاد، وَقَالَ الْكِسَائِيّ: الِاغْتِلَام أَنْ يَتَجَاوَز الْإِنْسَان مَا حُدَّ لَهُ مِنْ الْخَيْر وَالْمُبَاح. قَوْله: «عَيْن زُغَر» بِزَايٍ مُعْجَمَة مَضْمُومَة ثُمَّ غَيْن مُعْجَمَة مَفْتُوحَة ثُمَّ رَاء، وَهِيَ بَلْدَة مَعْرُوفَة فِي الْجَانِب الْقِبْلِيّ مِنْ الشَّام. وَأَمَّا (طِيبَة) فَهِيَ الْمَدِينَة، وَتُقَال لَهَا أَيْضًا (طَابَة)، وَسَبَقَ فِي كِتَاب الْحَجّ اِشْتِقَاقهَا مَعَ بَاقِي أَسْمَائِهَا. قَوْله: «بِيَدِهِ السَّيْف صَلْتًا» بِفَتْحِ الصَّاد وَضَمّهَا أَيْ مَسْلُولًا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ قِبَل الْمَشْرِق مَا هُوَ» قَالَ الْقَاضِي لَفْظَة (مَا هُوَ) زَائِدَة صِلَة لِلْكَلَامِ لَيْسَتْ بِنَافِيَةٍ، وَالْمُرَاد إِثْبَات أَنَّهُ فِي جِهَات الْمَشْرِق. قَوْله: «فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبٍ يُقَال لَهُ رُطَب اِبْن طَاب، وَسَقَتْنَا سُوَيْق سُلْت» أَيْ ضَيَّفَتْنَا بِنَوْعٍ مِنْ الرُّطَب، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانه، وَسَبَقَ أَنَّ تَمْر الْمَدِينَة مِائَة وَعِشْرُونَ نَوْعًا. و(سُلْت) بِضَمِّ السِّين وَإِسْكَان اللَّام وَبِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق، وَهُوَ حَبّ يُشْبِه الْحِنْطَة، وَيُشْبِه الشَّعِير. قَوْله: «تَاهَتْ بِهِ سَفِينَته» أَيْ سَلَكَتْ عَنْ الطَّرِيق. 5236- قَوْله: «فَيَضْرِب رُوَاقه» أَيْ يَنْزِل هُنَاكَ وَيَضَع ثِقَله.
|